السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( 10 )
ما بعد الضيق إلا الفرج
لا بد وأن كلا منا قد مر بلحظات سعيدة وأخرى حزينة في حياته ،ولعل القنوط أحد الأسباب في وقوعنا في مخالب الحزن وآلامه ، فليس من المعقول أن ننهار ونستسلم أمام أول عاصفة تواجهنا ، وليس من العدل أن يعترينا الخوف والحذر لمصيبة قد ألمت بنا ، وتذكر دائما أن الحياة بحاجة لمن يتسلح بالأمل والرجاء والنظر لغد أكثر إشراقا بنظرة غبطة وسرور ، وبروح صابرة لا تجزع . فالصبر قوة نفسية وإيجابية فعالة ... تدفع المتحلي به إلى مقاومة كل أسباب الخور ، والضعف ، والاستكانة ، والاستسلام ... وتحمله على الصمود والثبات أمام الفتن والمغريات ، وأمام المحن والمكاره والأحداث .
وصدق من قال :
تصبر فإن الصبر بالحر أجمـــل
وليس على ريب الزمان معول
ولنا في صبر يعقوب عليه السلام – على فقد ولده ، جميل القدوة ، وكبير المثل في هذا . قال تعالى : (( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ))سورة يوسف (18) ، يقول النسفي في حال يعقوب منخلال الآية : " أنه لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال أين القميص ؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب بدم القميص وقال : تالله ما رأيت ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قميصه ..بل زينت لكم أنفسكم أمرا عظيما ارتبكتموه ... فأمري صبر جميل ... وأستعينه ( أي الله ) على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف والصبر الرزء فيه .
أما الدمشقي فيشير إلى قول يعقوب : فأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه ... وقال مجاهد : الصبر الجميل الذي لا جزع فيه . وروى هيثم عن عبدالرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي حبلة قال سئل رسول اللهصلى الله عليه وسلم عن قوله (( فصبر جميل )) فقال : " صبر لا شكوى فيه " . وقال عبدالرزاق قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر ، أن لا تحدث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك . وذكر البخاري ههنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف (( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) .
وأضاف السعدي في تفسيرها : " صبرا جميلا سالما من السخط والتشكي إلى الخلق وأستعين الله على ذلك ، لا على حولي وقوتي " ... والشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل ، لأن النبي إذا وعد وفي . وفي قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : (( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون )) "سورة يوسف ( 87 ) .
ويرى ابن عاشور أن فيها تعليل للنهي عن اليأس ... والمعنى لا تيأسوا من الظفر بيوسف عليه السلام معللين بطول مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة . فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها ، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك فحقه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره ، وأما القوم الكافرون بالله منهم يقتصرون على الأمور الغالبة في السعادة و ينكرون غيرها ولسان حال يعقوب يقول لأولاده الغيورين :
لا يعرف الشوق إلا من يكابــــده
ولا الصبابة إلا من يعانيهـــــــــــا
ولا تعذل المشتاق في أشواقــه
حتى تكون حشاك في أحشائـه
إن المحن لن تطول .. ولا يبقى أمر على حاله . لذا لا بد لليل أن ينجلي ولعل المحن التي مر بها نبي الله ، يوسف عليه السلام كثيرة ومتعددة لكن صبره وتوكله على الله خفف من وطأتها عليه . يقول قطب : في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه السلام يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع ... منذ عام الحزن ... كان الله سبحانه ، يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم – يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .. وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات : محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب والخوف والترويع فيه .
ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله ، ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة . ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز ، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه .
ونجد أن السجن من محن الشدة في حياة يوسف ، فكل ما بعدها رخاء ، وابتلاء لصبره على الرخاء ، بعد ابتلاء صبره على الشدة . والسجن للبريء المظلوم أقسى ، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى .
نعم ... لقد صبر يوسف عليه السلام في ظلمات السجن . حتى أنه أبى الخروج منه حتى تثبت براءته ، ولعل في ذلك حكمة وبلاغة وحسن تقدير وجميل صبر وثقة بالله على إظهار الحق وفي هذا قال محمد صلى الله عليه وسلم : " لو لبثت ما لبث يوسف يوسف في السجن لأجبت الداعي " أي داعي الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى : (( فلما جاءه الرسول )) ... فهذه إحدى آيات الصبر التي أشار إليها قوله تعالى : (( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين )) سورة يوسف (7) .
وللإجابة على رؤيا الملك .. قال سيدنا يوسف (( تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون )) إلى آخر الأيات الكريمة . وفي هذا أخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف السمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط عليهم أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول . ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر " .
هذا هو خلق نبي الله يوسف عليه السلام . وهذا هو حاله ، فالإيمان العميق الذي كان يحمله بين ضلوعه ، وثقته الكبيرة في عدل رب السماوات . ويقينه بأنه لا يدوم ظلم أبدا ، كل هذا زرع فيه السعادة والقناعة والرضا وبالرغم من كل الصعوبات والمحن والابتلاءات التي كانت تعصف بحياته .
بينما تجد إخوته أناس تدفعهم الغيرة وقلة صبرهم على إيثار أبيهم إياه على ارتكاب أبشع الأمور والإظعها . رميه في لجب ... ! فهاهم إخوة يوسف يسألونه وهو يجيب واثقا مؤمنا في قوله تعالى : (( قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ))سورة يوسف (90) .
وقال شبيب بن شيه للمهدي : إن أحق ما تصبر عليه ، ما لم تجد إلى دفعه سبيلا وأنشد :
ولئن تصبك مصيبة فاصبر لهــا
عظمت مصيبة مبتلى لا يصبر
وقال محمد بن بشير :
لا تيأس وإن طالت مطالبـــــــــــــــه
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجــــــــا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجـــــــــأ
ولعل سنة نبينا صلى الله عليه وسلم تزخر في مواطن الحث على الصبر وهذا لعظمة هذه الصفة الحميدة وأثرها الطيب في حياة المسلم . عن أنس رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري ، فقالت : إليك عني ؛ فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها : إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت : لم أعرفك . فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى .
قال تعالى : (( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ))سورة آل عمران ( 186 ) ، هذا لأن الصبر من معالم العظمة وشارات الكمال ولذا فإن الصبور من أسماء الله الحسنى فهو يتمهل ولا يتعجل في عقاب الظالم ، ويترك ذلك إلى يوم يحاسب به الناس جميعا . وقد ورد في الأثر أنه قد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري : عليك بالصبر . واعلم أن الصبر ملاك الإيمان ، وذلك بأن التقوى أفضل البر ، والتقوى بالصبر .
وقد قيل :
والصبر عنك فمذموم عواقبــــــــه
والصبر في سائر الأشياء محمود
وقيل أيضا :
الصبر يجمل في المواطن كلها
إلا عليك فإنه لا يجمــــــــــــل
يذكر كوفي ذات مرة كنت مع صديق يحمل لا يحمل دكتوراه في فلسفة الرياضة ، وكان يركز على بناء قوته ، فطلب مني أن أراقبه وهو يقوم ببعض تمارين ضغط الحديد وهو ممدد على ظهره على مقعد طويل . وقال لي أنه سيطلب منيفي لحظة معينة أن أخذ منه الأثقال التي يتدرب بها . وقال لي بحزم لكن لا تأخذها قبل أن أخبرك ... كانت الأثقال تعلو وتهبط بين يديه . وصار في مقدوري أن أرى الأمر يزداد صعوبة ، لكنه واصل الرفع حتى بلغ منه التعب حدا ، ثم كان يخفضها ليعاود رفعها مرة أخرى .. وحين طلب مني في النهاية أخذ الأثقال عنه ، قلت لماذا انتظرت كل هذه المدة ؟ فرد علي : ستيفن ، معظم الفائدة من التمرين تقريبا تجيء في النهاية . وأنا أحاول بناء قوة . وهذا لا يحدث إلا حين تتمزق الأنسجة العضلية ، وتسجل الأنسجة العضلية الألم . بعدها يقوم الجسم بالتعويض خلال 48 ساعة وتبنى أنسجة أقوى . وقد فهمت وجهة نظره . فهو المبدأ ذاته الذي يعمل مع العضلات العاطفية أيضا ، مثل الصبر . فحين تختبر صبرك إلى أقصى الحدود ، تتمزق أنسجة العاطفة بأفضل منها ، وفي المرة التالية يكون النسيج أقوى .
17 قاعدة نفسية في سورة يوسف
تأليف أكرم عثمان
الصفحة ( 97 ) _ ( 104 )
وجزاكم الله ألف خير
موضوع: 17 قاعدة نفسية في سورة يوسف (( 10 )) 
الخميس 8 مايو - 14:10
